بسم الله و الحمد لله . أما بعد
فالقرآن هو كلام الله ، وهو أحسن الكلام ، هو حبل الله المتين و الذكر الحكيم و الصراط المستقيم أنزله
سبحانه على نبيه صلى الله عليه و سلم و تعبدنا بتلاوته ، من عمل به أجر و من حكم به عدل ، و من
دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ، لا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ، ولا تزيغ به الأهواء ، من
تركه من جبار قصمه الله ، أنزله سبحانه لينذر من كان حياً و يحق القول على الكافرين ،
و قال ﴿ لَوْ
أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [سورة الحشر : 21] فإذا كان هذا
شأن الجبل فكيف يكون حال المكلفين ؟! و هل يليق بهم العبث و المزاح و اللعب أثناء سماع الأيات
البينات ؟! لقد بلغ التدبر فى آيات الله كل مبلغ فكان الواحد يمر بقوله تعالى ﴿
وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [سورة الإسراء : 109] فيسجد ثم يقول لنفسه هذا السجود فأين البكاء ، و سمع أبو
الدحداح
قوله تعالى ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [سورة البقرة :
245] فقال أو يقبل الله منا القرض ، فتصدق ببستان له فيه ستمائة نخلة ، ثم ذهب لزوجته يخبرها
فقالت بشرك الله بخير ، و لم تلطم خداً أو تشق جيباً ، أو تقول له ضيعتنا ، بل عمدت إلى صغارها ،
تخرج ما فى جيوبهم و أيديهم من تمر لأن البستان قد صار لله تعالى . و كانوا لربما قرآوا الأية الواحدة
طوال الليل يتدبرون معناها ، فقد قامت أسماء بنت أبى بكر – رضى الله عنهما – الليل كله تردد
قوله
تعالى ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [سورة الطور :
27 – 28] و قام سعيد بن جبير
بقوله تعالى ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا
كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة : 281] و يمر الواحد بالآية تبكيه كما صنع عمر بن
الخطاب – رضى الله عنه – عندما مر بقوله تعالى قَالَ ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ ﴾ [سورة
يوسف : 86] سمع نشيجه من مؤخرة المسجد . و لم يقتصر ذلك على الراسخين فى العلم ، بل تعداهم
إلى حديثي العهد بمعرفة الإسلام ، حكى عبد الواحد بن زيد ، قال : ركبنا سفينة فانكسرت بعرض البحر
فأوفاتنا إلى جزيرة فرأينا رجلاً يعبد صنماً ، فقلنا : ما تعبد فأشار لهذا الصنم ، و قال : و أنتم ما تعبدون
، قلنا : نعبد الذى فى السماء عرشه و فى الأرض سلطانه ، وفى الأموات و الأحياء قضاؤه ، قال : فما
دليلكم عليه ، قلنا : بعث إلينا رسولاً ، قال : و أين هو ، قلنا : قبضه الله إليه ، قال : فما علامتكم عليه
، قلنا : ترك لنا كتاب الملك ، قال : أرونيه ، قال عبد الواحد : فدفعنا له مصحفاً ، قال : لا أحسن هذا
( أى لا يحسن القراءة ) ، يقول : فقرأنا له سورة من كتاب الله ، و هو يبكى و يقول ما ينبغى لمن كان
هذا كلامه أن يعصى ، قال عبد الواحد : فعلمناه من شرائع الإسلام ، حتى أوانا الليل فنمنا ، فقال :
أإلهكم الذى تعبدونه ينام ، قلنا : مولانا حى قيوم لا ينام ، قال : و بئس العبيد أنتم تنامون و مولاكم لا
ينام يقول عبد الواحد ، فتعجبنا له ، و بلغنا عبادان فدفعنا له مالاً ، فقال : سبحان الله ، دللتموني على
طريق لم تسلكوه إنى كنت أعبد صنماً فى البحر فلم يضيعني ، فكيف بعد ما عرفته ، و هذه القصة
الطريفة التى حكاها ابن الجوزى تدل على مبلغ تدبر الرجل و فقهه رغم حداثة تدينه ، و ذلك فضل الله
فنزل هارون الرشيد من على دابته و سجد على الأرض فقال له اتباعه ، أنه يهودى ، قال هارون : قال
اتق
الله ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [سورة البقرة : 206] فكان عملهم ووعظهم و تذكيرهم يدل على عظيم تدبرهم لآيات الله و من ذلك لما قدم سليمان بن عبد الملك
المدينة و ذهب إليه الناس يهنئونه ، وامتنع أبو حازم فبعث له سليمان يعاتبه ، و يقول له : وجوه الناس
زاروني و أنت لم تزورني ، فقال له أبو حازم : أنت لم تعرفني قبل هذا و أنا لم أرك قبل هذا اليوم ،
تخرجوا من العمران إلى الخراب ، قال : فما لنا عند الله غنم ، قال : أعرض نفسك على كتاب الله ،
قال : وأين أجده ، قال :
عند قوله تعالي ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾ [الانفطار] ، قال : فأين رحمة الله إذن قال: قريب من المحسنين . فهذا التبر
يورث الحزم والفطنة ودقة التمييز بين الطيب والخبيث والفاسد والصحيح ويجعل الإنسان راغبا ً راهبا ً
كما إنه يفضي إلى رسوخ الأيمان في القلب .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين